• 2022-04-18

المنهج النبوي في المحافظة على الصحة العامة

المحافظة على الصحة العامة للإنسان

لم تكن المحافظة على الصحة العامة للإنسان في الإسلام قضية اختيارية أو افتراضية، وإنما هي نوعًا مَّا أمرٌ فرَضي، فرَضه الله سبحانه وتعالى كما في العديد من الآيات الكريمة، وربما يحضرنا هنا قوله تعالى بالآية 195 من سورة البقرة "وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَة"، والتهلكة هنا تعني المخاطر بأية صورة كانت والتي منها المحافظة على النفس والجسم والبدن وكل أمر من الأمور التي تُصلِح حال الإنسان.
وفي السُّنة النبوية الشريفة فإن سلامة البدن جزء أصيل من الاحتياجات الصحية الأساسية للإنسان إذ تُعدُّ ثروة حقيقية توازي امتلاك الإنسان للدنيا، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أصبح منكم آمناً في سِرْبِه معافىً في جسده عنده قوت يومه فكأنما حِيْزَت له الدنيا) رواه الترمذي. وهذا الحديث الشريف يلفت نظرنا إلى ثلاثة أمور مهمة في الصحة العامة وهي: المكان والمجتمع الآمن، والجسم الآمن والسليم والمعافى، والطعام الآمن السليم بكل مقوماته وأبعاده، وهذه هي الصحة العامة التي نَنْشُد.
وقال الإمام ابن قيم الجوزية في كتابه (زاد المعاد) حول هذا الحديث النبوي الشريف: "مَن تأمَّل هدي النبي صلى الله عليه وسلم وجده أفضل هديٍ يمكن حِفْظ الصحة به، فإنّ حِفْظها موقوف على حُسْن تدبير المطعم والمشرب والملبس والمسكن والهواء والنوم واليقظة والحركة والسكون والمَنْكَح والاستفراغ والاحتباس، فإذا حصلت هذه على الوجه المعتدل الموافق الملائم للبلد والسن والعادة؛ كان أقرب إلى دوام الصحة أو غَلَبِتها إلى انقضاء الأجل".
ويقول العيد بلالي في بحثه (الوقاية الصحية في السنة النبوية) "فإنَّ هدْيَه صلى الله عليه وسلم قد تضمَّن أصولاً علمية – بكل ما تحمله كلمة العلم من معان وما تشير إليه من إيحاءات – حملت مفاهيم صحية شاملة بلغة العصر، لمس المجتمع الإنساني منها كل النفع والفائدة".
ومن خلال رحلتنا في القرآن الكريم والسُّنة النبوية الشريفة يمكن أن نلاحظ أن السُّنة النبوية التي تُعدُّ ترجمة وتفصيلاً للقرآن الكريم، تؤكد على النمط الوقائي للصحة العامة، وفي بعض الأحيان تتوسع في التدابير الوقائية وتوسع مساحتها وحجمها، ويمكن أن يلاحظ المتتبع لخطوات النبي صلى الله عليه وسلم عبر سيرته الطاهرة وسنته الكريمة أنه يحض على قطع الطريق على العلة أو المرض قبل حدوثه، فيقي الفرد والمجتمع من كل الأمراض الوبائية قبل وقوعها، وبذلك تبقى البيئة معافاة من الأمراض والعلل والمشكلات والآفات.
ومن الجميل جدًا أن هذا الفكر استمر وانتقل عبر القرون خلال الممالك والأمصار التي حكمها الإسلام. تقول الكاتبة كاثرين آشينبرج في كتابها (The Dirt on Clean: An Unsanitized History) إن القرن السابع عشر كان أقذر قرن في التاريخ الغربي، ووقتها استخدم الأوروبيون العطور للتغطية على روائحهم وروائح مَن يختلطون به، فعلى سبيل المثال كانت مدام مونتسبان عشيقة الملك لويس الرابع عشر ملك فرنسا؛ تُغرِق نفسها بالعطور قبل مقابلة الملك لتجَنُّب رائحة نفَسه الكريهة، ولكن إحساس الملك كان متبادَلًا تجاهها؛ فقد كان يكره رائحة العطر المحيط بجسدها؛ لأنه كان يُصيبه بالصداع، وقد سجَّل في مذكراته شجاراً حاداً بينهما لهذا السبب؛ حينما طالبها بالتخلي عن استعمال العطور، ولكن وسيلتها الدفاعية انتشرت منذ ذاك الوقت، وانشغل الأوروبيون بالتغطية على رائحة القذارة بدلاً من أن يفكروا في التخلص الجذري منها؛ ومن هنا جاءت الأسطورة التي تضع الأوروبيين على قمة صناعة العطور، وجعلتهم رواداً في مجالها.
"وفي المقابل – كما تقول المؤلفة – وفي الحقبة التاريخية نفسها؛ كان العالم الإسلامي يتمتع بشبكات الصرف الصحي، والمياه النظيفة المتوفرة لكل منزل؛ والذي كان يمنح فرصة جيدة للحفاظ على النظافة العامة؛ لكونها ركنًا مُهمًا من أركان الإسلام، والذي تبَنَّاه الغربيون فيما بعد للحفاظ على صحتهم. ولم يقتصر الفارق الكبير في شكل الحياة الأوروبية والحياة الإسلامية في العصور الوسطى على النظافة فقط؛ ففي حين كان النبلاء الأوروبيون يجلسون على مقاعد خشبية وحجرية باردة وغير مريحة، كان النبلاء المسلمون يحظون بالمقاعد الوثيرة ويسيرون على السجاد الفخم، وهو الأمر الذي ذُكِر كثيرًا بين أوراق الأوروبيين الزائرين للمجتمعات الإسلامية في ذاك الوقت؛ حينما عبَّروا عن انبهارهم بالحياة النظيفة الرغدة التي يحياها المسلمون، وعن استخدام المسلمين للنظافة مكمِّلًا للطب ووسائل الاستشفاء".
ولم تكن تلك الشهادة التاريخية هي الوحيدة عن إهمال الأوروبيين في العصور الوسطى النظافة الشخصية، بل وورد في العديد الكتب والمراجع أن قضاء الحاجة في روما القديمة كان يتم بشكل جماعي وتصَرَّف القاذورات إلى مجارٍ وسط الحمام أمام الجالسين على المقاعد بينما العبيد يحاولون تنظيف المجاري من المواد العالقة بها، واستمر هذا الوضع حتى انتهاء عصور الظلام الأوروبية والتي استمرت من سنة 400 ميلادية إلى 1400 ميلادية، وفي نهايات عصر الظلام برع في المسلمين علماء في العلوم والطب والفلك والهندسة والكيمياء واللغات والعلوم الشرعية وعلم البحار وعلم الأرض (الجيولوجيا) والهندسة والرياضيات والجبر والإحصاء والتأليف والترجمة.

آخر أخبار الدكتور زكريا الخنجي

  • بروتوكول وآداب تناول الطعام

    2022-12-20

    عندما جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم لتناول الطعام مرة وجد أن يد الصحابي الغلام (عمر بن أبي سلمة) رضي الله عنه تطيش في الإناء، فقال صلى الله عليه وسلم بكل هدوء ومن غير غضب أو زجْر بهدف تعليم الغلام وتعليم الأمة واحدة من أهم آداب تناول الطعام وخاصة ...

  • الشذوذ الجنسي وكارثة العصر

    2022-10-16

    نستشعر من الأحاديث النبوية الشريفة تشدُّد النبي صلى الله عليه وسلم وتجريمه وإنكاره بذكر اللعن من الله في موضوع تشبُّه الرجال بالنساء وبالعكس ، كما نلمس حرصه صلى الله عليه وسلم على محاربة بوادر هذا الأمر لما قد يفضي إليه في عدد من الأحاديث النبوية الش...

  • الاستنجاء من البول والغائط

    2022-09-17

    قد نصاب جميعنا بالقُرْف عندما نتحدث عن موضوع البول والغائط، ولكن هل نعتقد أنه من قبيل الصدفة أن يُطلَب منك عيِّنة من البول أو البراز عندما يريد الطبيب الكشف عن بعض الأمراض التي تعانيها ؟ في دراسة لنيل درجة الماجستير بعنوان (الوقاية الصحية في السنة ا...

  • الوضوء وأهميته العلمية والصحية (2/2)

    2022-08-16

    تناولنا بالشرح في العدد الماضي الأهمية العلمية والصحية للوضوء بصورة عامة، ثم عرّجنا إلى موضوع الأهمية العلمية والصحية من غسل الوجه، وكذلك الأهمية العلمية والصحية من غسل اليدين إلى المرفقين. ونعلم أن الوضوء لم يكتمل بعدُ عند هذه الخطوات، لذلك سنواصل ف...

  • الوضوء وأهميته العلمية والصحية (1/2)

    2022-07-15

    ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم أنه قال "الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ"، وعندما فسر الإمام النووي معنى الطهور في كتابه (المجموع شرح المهذب) قال: "وأما الطهارة في اصطلاح الفقهاء فهي إزالة حدث أو نجَس أو ما في معناهما وعلى صورتهما"، وبن...

  • السواك ونظافة الفم والأسنان

    2022-06-16

    وجدت مجموعة من الدراسات أن الثِّقَل الميكروبي الذي يعيش في الأحوال الطبيعية بالفم متعدد الأنواع ومختلف الأشكال والأحجام، إلا أنه وُجِد أن فم الجنين وحتى الوليد في لحظاته الأولى قبل أن يتناول الطعام أو أن يشرب الحليب عادة ما يكون خالياً من البكتيريا، ...